الإرادة العامة والشرعية السياسية- نحو استقرار الحكم في المجتمعات

المؤلف: طلال صالح بنان09.11.2025
الإرادة العامة والشرعية السياسية- نحو استقرار الحكم في المجتمعات

في عالمنا المعاصر، قلما نجد حكومة ديمقراطية تستطيع الادعاء بأنها تمثل شعبها تمثيلاً كاملاً وشاملاً بنسبة مئة بالمئة. وبالمقابل، لا توجد حكومة تجاهر بأن شرعيتها مستمدة من خارج نطاق الإرادة العامة لشعبها. كقاعدة راسخة، تعتبر الإرادة العامة – والتي تجسد إرادة الأمة ممثلة في الأغلبية المطلقة (٥٠٪ + ١) على الأقل – محل اتفاق على أنها تمثل الأمة في نظام سياسي يتيح للمعارضة، التي لم تحظ بتلك النسبة (الكمية) من الإرادة العامة، فرصة ثمينة لخوض غمار المنافسة (بشكل سلمي) في اقتناص فرصة مستقبلية، لكي تتبوأ سدة السلطة.

الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو (١٧١٢ – ١٧٧٨)، يطرح رؤية مفادها أن الأغلبية المطلقة تجسد بجلاء إرادة الأمة. ويرى أن عدم الإجماع على نخبة سياسية معينة لتمثيل الأمة، في فترة زمنية محددة، لا يعني بأي حال من الأحوال غياب إرادة عامة جامعة وشاملة للأمة بأسرها. فالأغلبية، من وجهة نظره الثاقبة، تمثل إرادة الأمة، والتي تشكل الأساس المتين للشرعية السياسية للحكومات. فالإرادة العامة، من منظوره، لا يعتريها الخطأ. وبالتالي، فإن تجسد الإرادة العامة في نخبة سياسية بعينها لا يستلزم حصولها على ثقة الإرادة العامة بصورة مطلقة وشاملة. بل إن الإرادة العامة للأمة تكون هنا ممثلة بالأغلبية والأقلية على حد سواء. لذا، في الحكومات الديمقراطية، تشارك المعارضة بدور فعال في الحكم من خلال تمثيلها للأقلية، بينما تتبوأ الأغلبية السلطة، بحكم حصولها المستحق على ثقة الأغلبية.

وبناءً على ذلك، تتمتع المعارضة بشرعية الوجود السياسي، في حين تحظى الأغلبية بشرعية الحكم. هاتان الجهتان (الحكومة والمعارضة) تجسدان معاً معادلة الحكم التي تعبر عن الإرادة العامة للجميع، في فترة زمنية محددة، دستورياً، لبقاء الحكومة في السلطة والأقلية في المعارضة. هذه المعادلة المتوازنة لشرعية الحكم، في مجتمع ما، هي أساس الاستقرار السياسي، حيث تشكل حلاً ناجعاً لمعضلة استقرار الحكم، التي تسعى النظرية السياسية (تاريخياً) جاهدة لإيجاد حلول جذرية لها.

وفي إطار تنظيم حركة السلطة بين الحكومة والمعارضة (الأغلبية والأقلية)، يكون المجتمع السياسي في كيان الدولة القومية الحديثة قد توصل إلى معادلة الاستقرار السياسي لنظام الحكم، بوسائل سلمية منظمة، من خلال آلية التداول السلمي للسلطة، بعيداً عن شبح الصراع (التاريخي) العنيف على السلطة. هذه الآلية المبتكرة للتداول السلمي للسلطة هي التي تحدد مستوى التنمية السياسية بمختلف درجاتها وأشكالها، من مجتمع إلى آخر. وتبقى الخيارات متاحة أمام أي مجتمع سياسي لاختيار النظام السياسي الذي يلائمه ويتناسب مع ظروفه، والذي يتحكم من خلاله الاستدلال إلى توجه الإرادة العامة، سواء كان النظام السياسي المختار برلمانياً أم رئاسياً أم شبه رئاسي أم نظام الجمعية الوطنية، أو حتى أي نظام سياسي آخر يعكس التعددية السياسية في المجتمع، حيث تكون السيادة دائماً للإرادة العامة.

في المجتمعات الأقل نمواً من الناحية السياسية، كما هو الحال في مجتمعات الجنوب، والتي يطلق عليها مجتمعات العالم الثالث، لا تحدد الإرادة العامة مجالها بمعايير سياسية مرنة، بل تعكس تعددية غير سياسية إلى حد كبير، تحدد مجال حركة صراع الأغلبية والأقلية، ضمن خطوط حاسمة، غير متسامحة، ثقافية وطائفية وقبلية وعرقية ودينية، وليس معايير سياسية واضحة متسامحة، كالمعايير المجتمعية والاقتصادية والتنموية والأيديولوجية الخدمية، حيث يُسمح بمرونة كافية، لتقبل المعارضة ضمن أي نظام سياسي عصري، تتحدد شرعيته بآلية التداول السلمي للسلطة، تنعكس من خلاله الإرادة العامة (سلمياً)، بكل شفافية وتسامح وثقة.

نتيجة لهذا الخلط بين التعددية السياسية والتعددية غير السياسية، تفاقمت وتكرست مشكلة الأقليات، ولم يشهد الحراك السياسي في تلك المجتمعات الأقل نمواً تطوراً ملحوظاً، باتجاه تطوير ثقافة ليبرالية متسامحة، تفرق بين الأغلبية والأقلية، في أنظمة سياسية مرنة ومتسامحة، لا تنظر إلى السلطة من خلال زاوية الصراع العنيف، وربما الدموي عليها، بل تسعى جاهدة لاستيعاب حركة الصراع هذه وتطويعها بهدف إزالة الحدود الحمراء الفاصلة لتحديد مجال حركة كلٍ من الأغلبية والأقلية، وذلك من خلال تطوير آلية سلوكية سلمية كمية (الانتخابات) لتحديد موقف الإرادة العامة بجدارة بين جناحي السلطة (الأغلبية والإقلية).

ومن هنا، تسيطر مظاهر عدم الاستقرار السياسي على مجتمعات الجنوب، مقارنة بمجتمعات الشمال. ففي مجتمعات الشمال (الديمقراطية)، تتناوب الأغلبية والمعارضة على السلطة عن طريق المنافسة الحرة السلمية، وصولاً إلى الحكم والبقاء فيه أو الخروج منه، دون أن يترتب على ذلك أي شكل من أشكال محاولات «اغتصاب» السلطة العنيفة، بعيداً عن خيارات الإرادة العامة الحرة.

كما نلاحظ، غياب الثقة بين محاور التعددية غير السياسية، في مجتمعات الجنوب، مما يؤدي إلى تفاعل صراع عنيف على السلطة، لا تشعر فيه الأقليات بالأمان إلا بالاستحواذ على السلطة، والاستماتة في البقاء فيها. في المقابل، تشعر الأغلبية بما يشبه الحق السرمدي في الحصول على السلطة والبقاء فيها، دونما حاجة لأخذ مواقف الأقليات واحتياجاتهم وضمان حقوقهم الطبيعية والمكتسبة، والتي من أهمها المشاركة الفعالة في السلطة.

لهذا السبب الهيكلي الخطير، لم تشهد الكثير من مجتمعات الجنوب تطور أنظمة سياسية مستقرة، بينما تسود مظاهر الاستقرار السياسي، وما يترتب على ذلك من تقدم ملحوظ في جميع أوجه التنمية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية) في مجتمعات الشمال المتقدمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة